الهولندي هاري خيرتز يقتفي الأثر ويخضّع الصعوبة نحن مسافرون نحن أشجار تمشي

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
24/02/2009 06:00 AM
GMT



لا يمكن تجاهل مفهومي الأثر والطاعة عند الحديث عن أعمال الفنان الهولندي هاري خيرتز رسماً ونحتاً، والمعروضة لدى "غاليري كليمان". لا يجاهر الهولنديون بالعداء وهم في تصرفاتهم الحياتية أقرب إلى القبول منه إلى الرفض العلني المباشر، ولهذا تندر الثورات في تاريخهم. هذا متأتٍّ من علاقتهم بالطبيعة التي لا تزال تهدد وتحدد فرص بقائهم. فالغرق يرسم مستقبل هذه العلاقة وهم أقرب إلى مفهوم احتواء الطبيعة الذي يحتّم عدم محاربتها. تظهر التضاريس سمة بارزة في غالبية لوحات المعرض؛ آثار الحقول، أبراج الكنائس الشاهقة المستدقة على الطراز القوطي.

يقول الفنان هاري خيرتز: "ولدت في قرية ريفية تحيط فيها ثماني كنائس وهناك برج انذار عالٍ يعلن النفير في ساعة الغرق". الأثر هو الشيء المرئي هندسياً ووظيفياً في تخطيط حقول الزراعة في هولندا، إذ تأخذ حقول الورود مثلاً، اشكالاً هندسية ولونية. ثمة حقول صفر وأخرى حمر، إضافة إلى ما تتطلبه عملية حراثة الأرض من تغيير في تضاريسها وإحداث آثار جديدة.

لوحات الفنان الزيتية عبارة عن عدسة مكبّرة للطبيعة، والفنان نفسه هو عدسة مكبّرة للأثر والطاعة التي يحققها في منحوتاته البرونزية والخشبية، الطاعة التي يجلبها عنوة وليس من طريق التوسل أو التراضي. تظهر أبراج الكنائس المستدقة في معظم لوحات المعرض بوصفها شواهد آثار وليست شواهد ايمان أو تعبد. فالفنان غير مؤمن دينياً، لكن هذه الكنائس تشكّل آثار بيئة حميمية تربطه بعالم الطفولة، وهو في غاية التعلق بها. وحتى عندما يرسم البيوت أو آثار الاقدام البشرية، فهي مستدقة أيضاً تشبه أبراج الكنائس. أما الالوان: الابيض، الاسود، البنفسجي والاصفر، فهي السائدة مشهد اللوحات، والمعبّرة عن علاقة الفنان الطردية مع الطبيعة، إذ لا بد من بقاء أحدهم على قيد الحياة ليستمر الثاني في العطاء. لا يغادر الفنان شغفه بالتضاريس. ففي لوحة "6 أبراج لقصر" تحضر أبراج الكنيسة بشدة هنا، حيث خلفية اللوحة بيضاء، وستة خطوط حمر مدببة. وبخلاف ما يشير اسم اللوحة، يحضر الايمان الديني، مما يمهد للقول ان هذه اللوحة مؤمنة، فالابراج تتطلع في هيئتها إلى الكنيسة، والخلفية البيضاء هي النقاء الذي تثيره الكنيسة في نفس المؤمن، أمّا اللون الاحمر فهو أثر الانسان على الارض أو آثار المصلوب. ينتفي الاطار في لوحات المعرض، تعزيزاً للرحابة التي تثيرها التضاريس وفضاء القرية المفتوح على الجهات والريح. ويحلّ معادل آخر له يصيب الدلالة الرمزية أكثر من وجود الاطار، وهو نقاط على شكل آثار تحيط باللوحة. تكاد ان تكون هذه الطريقة التقنية سمة بارزة في لوحات المعرض تشير إلى الأثر، وكأن هذه النقاط هي آثار المتفرج التي تتكرر محيطة بالكادر في لوحات عدّة، منها "قرية بأبراج بيضاء" مع خلفية باللون الرصاصي، وهو اللون المفضل لدى الفنان، إذ يشتقّ منه الواناً أخرى، وهو اللون السائد الطبيعة الهولندية حيث الجو الممطر الكالح.

تبدو تقنية اللون سهلة للوهلة الاولى، وسرعان ما يزول هذا الانطباع بالتدقيق في طريقة صناعة اللون على اللوحة وهي مركّبة من الوان كثيرة، تبدأ بالداكن وتنتهي بالفاتح، اذ يعتقد الفنان ان البداية كانت مع الظلام والنهاية ستنتهي مع الضوء باعثاً التفاؤل. هذه الطريقة مناسبة أيضاً لنشر الأثر وجعله يعانق الديمومة، فالنور أكثر هداية وبقاء من الظلام. يحضر التقشف اللوني في هذا المعرض على خلاف اعماله في الاعوام 1980 -2000 التي كانت تشيع الفرح وكأن الأمان هو المسيطر. تحضر الوان الفصول المشعة رفيقةً لهذا الجنى اللوني، الوان بهجة تعوق الهجرة والاغتراب، مستمدة من الارض التي ينتمي اليها. الخطوط المدببة الناظرة إلى الافق كأبراج الكنائس والآثار الحاضرة في معظم اللوحات كأسلوب لوني تقني وكرمز يشير في دلالته إلى السفر، تمنع الشعور بأن المعرض يميل في اسلوبه إلى التجريد، وإن يكن هذا الانطباع حاضراً نوعاً ما. يقول الفنان: "نحن مسافرون، نحن أشجار تمشي". ليس السفر بعيداً عن الأثر ولا منافياً للفكرة الدينية بأن الحياة طريق عبور. وعليه، فإن الطبيعة هي الدار أو المنزل، والحنين هو اليها والهجرة بمفارقتها. هكذا يضمن الفلاحون ابتعادهم عن الاغتراب الوظيفي فهم يشتغلون في الارض ويتحصنون ضد الاغتراب النفسي عندما يفرضون فكرة الطبيعة على انها الحضن او الأم، وبعد الموت هناك عودة حتمية اليها.

نشأة الفنان وانحدار سلالته من اصول فلاحية، ليستا في منأى من تكوينه الفكري الذي فرضه على اللوحة طوال أربعين عاماً وهو جلّ خبرته في ميدان الرسم. لم ينجر وراء الاساليب والمدارس الفنية الحديثة، وعلى رغم نفيه التدين عن نفسه، يحضر الايمان غير التعبدي في تكوينه الروحي والفني.

يمتنع الفنان هاري خيرتز عن رسم الوجوه الذي هو من مهمات عدسة التصوير الفوتوفرافية، لكن الوجوه حاضرة بشكل رمزي مخفي في الطبيعة المنتجة للأثر، والمنتجة للانسان بصفته أثراً على الارض سيزول. فما دامت الطبيعة تلد الكل ويعود اليها الجميع، فالوجوه والمخلوقات هي الاخرى حاضرة بشكل رمزي في أبراج الكنائس، في شواهد الاقدام وفي ضوء القمر الملهم والحاضر مراراً في لوحات الفنان كما في لوحة "قمر في مدينة". الفضاء في المدينة، كما هي الهواجس، مبطن، غير سافر عن احتكاكه الشديد بالعالم الخارجي. لكن الفضاء في الريف معلن يمارس احتكاكه بالموجودات بشكل مكشوف ومن دون مواربة. هذا الاحتكاك مقيّد الى فكرة الطبيعة – الدار، بينما في المدينة يكون هذا الاحتكاك هائماً ومرهوناً بفكرة النزوح أو الهجرة.

ثمة نفي قاطع الدلالة أن الفنان ينتمي الى المدرسة الانطباعية، فلا مواضيعه ولا طريقته في بناء اللون تشيان بذلك، انما هو فنان ينتمي الى تضاريس الطبيعة التي ينحدر منها، مع طريقة فلسفية في بناء اللون تبدأ من الداكن وتقف عند الفاتح. ليس لديه في النحت كما في الرسم نقص في الشواهد المدببة المستدقة. منحوتاته رشيقة لا تخلو من التطلع الى الفضاء وتحاكي في امتداد كتلتها طريقة بناء الكنيسة العمودي كما في "قمر مظلم" أو "قرية الشاعر". تتكرر مرة أخرى رموز الطبيعة الضوئية متمثلة بالقمر، والجغرافيا حاضرة. تكتسب منحوتاته الخشبية غير لون، على خلاف منحوتات البرونز الزاهدة لونياً. استطاع الفنان أن يفرض الطاعة. البرونز والخشب لا يعصيانه، ولديه صبر فلاحين على الارض والمناخ القاسي الذي جعله متسلطاً على هذه المواد، مع خبرة لونية بأديم ارض.

هل هناك تصادم في الايحاءات والمواد المستعملة في عمل الفنان، سواء رسماً أم نحتاً؟ يقتفي الفنان الاسلوب الجمالي نفسه (اشكال مدببة)، انما هناك تعارض فلسفي مؤكد في اعماله، فالفراغ في اللوحة هو غيره الفراغ في المنحوتة. فراغ اللوحة مقدّر، وعليه يمكن القول انه محسوب زمنياً وهو ممتلئ من طريق علاقة المنظور مع الاشكال الاخرى في اللوحة، بينما فراغ المنحوتة مادي ومعنوي في الوقت نفسه، ويتعذر احتسابه ضمن مقاييس الوقت التقليدية. انه تعبيري، يشمل الكتلة أي المكان، ومؤول بمعنى الزمن، يكتسب رموزه من الفضاء الداخلي داخل المجسم.